تجربة العدالة و التنمية التركي غير قابلة للاستنساخ و لكن قابلة للدراسة

تجربة العدالة و التنمية التركي غير قابلة للاستنساخ و لكن قابلة للدراسة
حزب العدالة و التنمية

ان ما يكتب عن هذه التجربة كتب دائما بعيون عربية غالبا ما تنظر نظرات عابرة لتلك التجربة الاسلامية في تركيا بمعنى اننا ليس امامنا تجربة كاملة نستطيع فهمها بشكل كامل لو اردنا (مثل تجربة حماس او الحركات الاسلامية في اي بلد عربي لا تفصلنا عنه اختلافات في اللغة او طريقة التفكير ) و انما امامنا مجموعة تحليلات و مقالات لصحفيين عرب كل ينقل لنا ما استرعى انتباهه هو وفق نموذجه الادراكي العربي
و مع ذلك نحاول رصد التجربة من واقع ما تم نقله لنا

عند متابعتي لتلك التجربة لمحت ثلاث سمات اساسية للعمل الاسلامي التركي
1-- التعددية و التنوع : تعدد الحركات و الجهات العاملة للاسلام في غير صراع و في غير تعاون
2- الواقعية
3- العملية

السمة الاولى سمة التعدد دون صراع او تعاون
حيث توجد حركة صوفية كبيرة (الطريقة النقشبندية) و جماعات و حركات اسلامية تربوية و دعوية من اتباع النورسي و التي يقال انها تتوزع الى 12 فصيل
و ثلاث احزاب اسلامية منها حزب العدالة و التنمية الذي يدعو لعلمانية لا تحارب الدين و انما تحميه و حزب السعادة بقيادة نجم الدين اربكان و حزب ثالث (لا تسعفني الذاكرة باسمه او بمعلومات عنه)
و كذلك مؤسسات اسلامية تهتم بالعمل الاقتصادي البحت
و جماعات تعنى بالعمل التعليمي و التثقيفي
و اخرى بالجانب الخيريهذا التنوع و التعدد في غير صراع ادى الى ان توجيه ضربة لاحد هذه الفصائل لا يؤثر بشكل مباشر على باقي الوان الطيف الاسلامي
كما انه اتاح لهذه التجمعات درجة من درجات التخصص و الاتقان في مجالاتها المختلفة
و من ملاحظات احد اصدقائي زار تركيا منذ عامين تقريبا ان الشعب التركي يميل للاتقان اصلا مستدلا بذلك على ما راه من حيث ان عدد المصلين في صلاة المغرب و العشاء يكاد يساوي عدد المصلين في صلاة الفجر و هذا معناه ان من ياخذ منحى اسلامي مثلا فانه ياخذه بقوة دون تراخي

كم ان هذا التعدد و التنوع في العمل الاسلامي نقصه التكامل و التعاون ايضا و هذا سبب اضرار كثيرة منها ان تجد احزاب علمانية تحظى باصوات شرائح واسعة من المتدينين بل و تجد في اعضائها شرائح من المتدينين و بالتالي في هذا انتقاص من نصيب الاحزاب اسلامية التوجه من اصوات و عضوية هؤلاء
لكن كان لهذا اثر ايجابي في تخفيف و اخفاء النزعة المعادية للدين في تلك الاحزاب العلمانية و بالتالي و مع التراكم افسح هامش لممارسة الحريات الدينية و فتح مدارس اسلامية لا تزال مدد لحركة اسلمة تركيا

و في هذا درس بليغ لنا حيث نرى ان مجرد عدم التصارع بين الحركات افاد الجميع فما بالنا لو تعاونوا و نسقوا في غير اندماج

و كذلك ان التخصص في العمل الاسلامي اتى بنتائج مبهرة من حيث نوعية الكوادر التي افرزتها الحركة الاسلامية هناك
حيث نرى الكوادر الاقتصادية و الاعلامية و المفكرين بل حتى ان النماذج التي تقود العمل التربوي عليها مسحة روحانية عالية
فضلا عن الكوادر السياسية التي تتسم بدهاء لا نظير له
نجم الدين اربكان

و كذلك افاد التعدد و التنوع ان جعلت كل فصيل نموذج يمثل ذاته و لا يمثل الاسلام و صورة الاسلام في اذهان العامة و بالتالي فان كل فصيل يستطيع ان يتخذ من المناورات ما يفتح له الطريق دون خوف ان تهتز مثالية الاسلام ذاته في نفوس الاتباع
فان كان اربكان متشدد من وجهة نظر البعض فهناك نموذج اردوغان و ان كان اردوغان متساهل و براجماتي في نظر البعض فهناك اربكان الاكثر محافظة و بالتالي فالجماهير مخيرة بين فصيلين كلاهما اسلاميين كما هو نموذج الاختيار في امريكا مثلا بين الجمهوري و الديمقراطي و كلاهما وجهين لعملة واحدة هي السياسة الامريكية التي لا تختلف كثيرا الا في الاداء و نوعيته

فلا يوجد شكل محدد للعمل السياسي الاسلامي ان اخطأ تلصق بالاسلام اخطاؤه و ان اصلح رفعناه الى مكانة القديسين
كما ان هذا التعدد شكل ضغط على قوى الاستبداد هناك حيث ان تساهلات اردوغان لم يكن لها معنى لو غاب اربكان (تماما كما كان العرب يتسابقون للتنازل امام بيريز خوفا من شارون )
و كلا الاثنين ليس لهما اهمية او سند في غياب المؤسسات الاقتصادية و اتحادات رجال الاعمال و اتحادات الصناعة التي تضغط من اجل ايجاد وضع سياسي مستقر

السمة الثانية من سمات العمل الاسلامي التركي (الواقعية )
حيث تركز سقف مطالبات الاسلاميين هناك سواء كانوا سياسيين او اقتصاديين او تربويين على اهداف ممكنة قابلة للتحقيق
فهم لا يطرحون قضايا لم يحن وقتها او قضايا مستحيلة التحقيق فلا يطرحون مطلقا عودة الخلافة او اي شئ من هذا القبيل الا كمجرد احلام عامة تكون في احتفالات ذكرى فتح القسطنطينية

يضعون اهداف قريبة يكافحون من اجل تحقيقها

فرغم المناخ العام المعادي للاسلام في تركيا نجد هناك مؤسسات اسلامية استطاعت ان تشق طريقها لا نجد لها مثيل في مجتمعاتنا العربية (اتحادات رجال الاعمال الاسلاميين - مدارس الخطباء - نقابات مهنية - اعمال اهلية و خيرية فاعلة )
يتخيل البعض ان هذا ثمرة تسامح العلمانية في تركيا
ابدا بل هي ثمرة و واقعية الاسلاميين هناك و حنكتهم و الا فعلينا ان ننتظر من خصومنا ان يمكنوا لنا في الارض

هذا يقودنا لسمة ثالثة مهمة جدا
العملية
اربكان لم يطرح نفسه في البداية كمصلح اجتماعي او سياسي او ديني و انما هو ظهر اول ما ظهر كمخترع طور دبابة المانية
نجح في المانيا فصفقت له تركيا فعاد اليها عودة الابن الوفي و طرح نفسه اعلاميا كمخترع و عالم يسعى لنهضة بلاده تقنيا و اتجه نحو الصناعة و بدا بنفسه سلسلة من الاتصالات لتشكيل اتحاد صناعي من رجال المال و الاعمال و تشكل الاتحاد برئاسته حتى اذا ما اشتد عوده و اصبح حقيقة واقعة تركه يعمل و سعى لانشاء منظمة اخرى تمثل اتحاد لرجال المال و الاعمال ذوي الميول الاسلامية حتى اذا تشكل و اشتد عوده و اصبح واقعا و اصبح جزء من بناء تركيا المالي و الاقتصادي استقال من رئاسته و فوجئ به الجميع يدعو لتشكيل اول حزب سياسي له ميول اسلامية و هو حزب كان حجمه في الشارع بسيط و لكنه يحظى بثقة رجال المال و الاعمال و الصناعة و في اول انتخابات يتحالف اربكان مع اشد احزاب تركيا علمانية و يدخل البرلمان و يشارك في تشكيل الحكومة و يصبح وزيرا للصناعة

في كل الخطوات السابقة نحن نلمح رجل متدرج يسعى نحو الصناعة تحديدا لتحقيق غاية بعيدة المدى هو ان تتشكل جبهة صناعية قوية في تركيا حيث يرى من وجهة نظره ان الصناعة هي النشاط الاكثر قوة في دعم استقلال القرار السياسي في الدولة و بالتالي تجنيب الدولة التركية في المستقبل سواء كانت تحت سلطة علمانية او اسلامية تجنيبها التدخل السافر في شئون البلاد
بينما السياحة و غيرها من الانشطة رغم ارباحها الضخمة الا انها ترهن القرار الوطني لارادات خارجية
(بينما نرى القرار لمصري مثلا مرهون لاقصى درجة برغبات و احلام الاجانب و ليس على من يتولى حكم مصر خلفا لمبارك الا الركوع للغرب الذي يستطيع منع السياحة و القمح و الدواء و غلق القناه بل و تجفيف منابع النيل ايضا)

اربكان كان يؤسس لحالة بعينها و اهداف محددة ظل يسير فيها حتى صار رئيسا للوزراء حيث انشا مجموعة الثماني الاقتصادية الاسلامية لنفس الغرض
من الواضح في مسيرة اربكان و انه رغم ما شابها من كر و فر انهزام و انتصار انه استطاع ان يضع و يشكل لبنات في البناء السياسي و الاقتصادي التركي لم يستطع احد ان ينزعها حتى في حالات ادخال اربكان السجن
و بالتالي تظهر السمة العملية في نموذج اربكان
اردوغان

و اذا تأملنا نموذج اردوغان(الاعمار قبل الشعار) نجده استغل فترة رئاسته لبلدية استانبول لجعلها اجمل مدينة في العالم بينما لم يفكر في اعادة اسمها الاصلي (اسلامبول ) و حل مشكلات المدينة كلها و حسن مرافقها و جعل منها نموذجا لا ينسى لكل مواطن تركي او سائح عابر ان اردوغان كان هنا و مر من هنا

اردوغان عندما اثيرت مشكلة زوجات الوزراء المحجبات و حضورهن المراسيم العامة للدولة و اشعلها العلمانيون نارا
انسحب تماما و اصدر تعليماته بان ياتي الوزراء دون زوجاتهم في مراسم الدولة
بينما ركز جهده على استصدار سلسلة من القوانين جعلت موزانة الجيش تحت رقابة البرلمان و لم يتراجع و خفف من تدخل الجيش في الحياه العامة
و استهلك الوقت بطريقة غريبة في اجراءات موافقته على استغلال اراضيه من الجيش الامريكي لضرب العراق لدرجة ان امريكا غيرت خطتها من اجله و بسببه
يوافقون من حيث المبدا على استغلال القوات الامريكية لاراضيهم لكنهم يشترطون دفع مبلغ 50 مليار دولار مقدما تعويضا عما سيجلبه هذا على الشعب التركي من اضرار
فيظهر بمظهر المدافع عن شعبه في عيون شعبه و البراجماتي الذي يقبل التفاوض في نظر الامريكان و لا يظهر بمظهر لزعيم المتشدد الذي قد يضحي بمصلحة البلاد في غمار اندفاعه نحو مثل عليا لم يتربى الشعب التركي بتركيبته الحالية على قبولها

استغل الزيف العلماني الذي منى الشعب التركي بالغرب و اللحاق بركب الغرب استغله بدلا من مصادمته
استغله ضد استبداد الجيش ليحد من سلطة الجيش ( و هو مطلب الاسلاميين )

تحرجه اوربا لالغاء عقوبة الزنا كشرط من شروط الانضمام للاتحاد الاوربي فيستغل الفرصة و يلغي معها عدة قوانين تحارب الحريات العامة و يضع قوانين تحد من تدخل سلطة الجيش في الحياه العامة
و يضع من الاجراءات العملية ما يمنع و يقلل من جريمة الزنا حيث يمنح مساعدات مالية لكل امراة تعتزل مجال الدعارة و ينشئ الصناديق المالية و الخيرية التي تدعم المراة التركية التي تعول او التي ليس لها مصدر رزق محققا بذلك اعلى نموذج لاحترام المراة و تكريمها
فتختفي الدعارة في تركيا بشهادة من زاروها بعد ما كانت النساء يعرضن في واجهات المحلات الزجاجية

و استغل امريكا للضغط على اوربا لقبول تركيا في الاتحاد الاوربي
و استغل ضغط الجيش لمجابهة الضغوط الامريكية في قضية الاكراد
و استغل الجميع ليعطي للاكراد مزيدا من الحقوق وضعتهم على الخريطة السياسية التركية لاول مرة حيث باتوا يشكلون اكثر من 5% من اعضاء البرلمان التركي الاخير و وضعهم كقوى اجتماعية تستطيع ان تدافع عن حقوقها في وجه الضغوط الامريكية و ضغوط الجيش و ضغوط القوميين المتشددين

حاول تمرير تعديلات دستورية تجعل الرئيس في مواجهة الشعب بدلا من جعله العوبة بيد مجلس الامن القومي (نصفه من العسكر )
و استغل اعلى مرحلة لشعبيته لتمرير اصلاحاته التي لن تثمرالا على مدى طويل جدا
اعترضه خصومه فوضعهم في عكس مصالحهم حيث طالبوه باجراء انتخابات مبكرة كان هو مستعد لها من ناحية و كانوا هم غير مستعدين من ناحية اخرى كما ان اجراء الانتخابات قبل موعدها بنحو اربع اشهر كان مقصودا من جانبه ربما لما استشعر ان العسكر و العلمانيين قد اعدوا العدة لاجراءات عسكرية ضد الاكراد قبيل موعد الانتخابات الرسمي(حيث ان موسم الخريف هو الموسم الامثل للعمليات العسكرية في شمال العراق من وجهة نظر العسكر في تركيا) كي يحققوا احراجا لموقفه و ضغطا عليه و اجريت الانتخابات التي اتت به و بالاكراد معا

اردوغان الاكثر بعدا عن الشعارات لكنه تعلب السياسة
التلميذ الذي تفوق على استاذه تعلم منه العملية (ان يزرع لبنة و يضعها في نقطة مفصلية في البناء التركي حتى يستحيل نزعها من بعده و لو لم يرجع للسلطة )
اردوغان التعلب فر من كل المعارك الرمزية التي دفعه لها خصومه في مقابل نجاحه في كل المعارك العملية
عبد الله جول - انسحاب من المعارك الرمزية و خوض المعارك العملية

عبد الله جول الذي ثار ضده العلمانيين مشعلين معركة رمزية حيث استهجنوا ان تدخل زوجته محجبة قصر الرئاسة الاتاتوركي فقال لهم و لماذا تدخل قصر الرئاسة و انا اصلا لن اترك شقتي
نموذج للانسحاب من المعارك الرمزية او الواهية و القتال بشراسة و مكر و دهاء في المعارك العملية

هذه اهم السمات التي لفتت انتباهي في الشأن لتركي (التعددية و التنوع - الواقعية و التدرج - العملية و المؤسسية)



__________________

تعليقات

التسميات

عرض المزيد