خواطر عن الجريمة و القانون و السياسة و الاخلاق

خواطر عن الجريمة و القانون و السياسة و الاخلاق
بقلم : محمد سعد حميده

نظرية مفيدة درستها وقت ان كنت طالبا في اولى حقوق في مادة علم تفسير الاجرام
كانت النظرية لعالم اجتماع ايطالي يدعى "دي تيليو"
مفاد النظرية
ان المجتمع اي مجتمع فيه عدة فئات
فئة من النبلاء الذين لا يمكن ان يرتكبوا اي جريمة مهما بلغت بهم الضغوط اي انهم حتى لا يلجئون للجريمة الداخلة تحت عنوان الضرورة
و مثلهم كركاب سفينة غارقة عددهم الف مثلا و يوجد قارب نجاه لا يتسع الا لعدد محدود و ليكن 50 فان هؤلاء النبلاء لا يمكنهم الدخول في صراع و السعي لاغراق الاخرين من اجل النجاة بارواحهم
كما ان هؤلاء النبلاء لا يمكنهم ارتكاب فعل اجرامي و لو كان المجتمع يبيحه و يكافئه و يوقع العقوبة على من يخالفه
هؤلاء نسبتهم في المجتمع تتراوح بين 2% الى 3%

و نسبة المجرم بالطبع الذي لديه ميل اجرامي طبيعي فهو مستعد للسرقة مثلا حتى و لو تلقى تربية حسنة و حتى و لو كان يملك مالا يكفيه و هذا لا يمكن ردعه الا بالردع القانوني و تاكيد رقابة و متابعة الدولة و هيبتها
و هؤلاء نسبتهم في المجتمع مثل نسبة النبلاء

و نسبة المجرم بالصدفة و هو المجرم الذي يكون شبيه بالرجل العادي و لكنه قد يقع في الجريمة نتيجة سوء التربية او انه وجد ان الفرصة للجريمة متاحة و امن العقوبة و حدثت له ضغوط دافعة للجريمة
مثال مجرم لديه ميل للسرقة بالصدفة كان يمر في مقر عمله و كان يفكر في طريقة لتدبير مصاريف مدارس اولاده و وجد الخزنة مفتوحة و لا احد يراه فانه يسرق ما بالخزنة نتيجة وجود الحاجة و غياب الرقابة و امن العقوبة و اخطر شئ على الانسان المجرم بالصدفة تناول المسكرات التي قد تنقله من انسان عادي و محترم و مستور الحال الى مجرم لان المسكرات تزيد الدافع و تقلل المانع من ارتكاب الجريمة فاذا التقت مع شخص يملك تكوين (المجرم بالصدفة) فانها قد تدفعه حتما للجريمة

و امثال هؤلاء يجب احتوائهم دائما لان نسبتهم من 25% الى 35% من افراد المجتمع

نسبة الرجل العادي : و هي تمثل من 60% الى 70% من افراد المجتمع الذي لا يميل للجريمة بطبيعته و اذا وجد خزنة مفتوحة فانه قد يغلقها و ينبه الموظف المختص
و لا يمكن ان يرتكب جريمة الا في حالتين فقط
الحالة الاولى الوقوع تحت ضغط الضرورة و الاكراه اضطر ليقتل كي ينجو بنفسه كما يحدث احيانا عندما تحدث حريقة او كارثة في منطقة مزدحمة فقد تجد من اضطر ان يدوس على اجساد الاخرين كي يهرب بحياته
او يضطر ان يسرق (على قدر حاجته) رغيفا ليسد جوعه في حالة انه قد اقترب من الموت
و في في حالة جريمة الضرورة يوجد اعفاء من العقاب في الشريعة الاسلامية كما يوجد اعفاء من العقاب في كل الشرائع الاخرى التي نقلت عن الشريعة الاسلامية بنفس التبريرات التي ساقها الفقهاء المسلمون

و هناك حالة اخرى قد تدفع الرجل العادي للجريمة : ان يكون الفعل الاجرامي الذي يرتكبه لا يعد جريمة في ثقافته و تفكيره مثل مخالفات المرور بما فيها المخالفات شديدة الخطورة
و كذلك جرائم الاهمال الجسيم عند من ياخذون الحياة بسطحية بالغة
او مثل جرائم زراعة و تجارة المخدرات عند من لا يرونها فعلا محرما
او التهرب من الضرائب او الجمارك او من سداد تذكرة ركوب مواصلة عامة
او جريمة الثار و جريمة الشرف التي تعد مفخرة في بيئته

اعتقد ان هذه الفئات (النبيل و العادي و المجرم بالصدفة و المجرم بالطبع) موجودة في كل المجتمعات و النسب متقاربة بين المجتمعات الطبيعية و لا تكاد تختلف كثيرا لو قارنا المجتمع الاسلامي في ازهى عصوره بجتمعات اخرى في افسد حالاتها

اذن ما الذي يجعل مجتمعا صالحا و اخر فاسدا ؟
ما يجعل مجتمعا صالحا هو ان دفة تصريف امور المجتمع في ايدي النبلاء (الصالحين و المصلحين)
و ما يجعل المجتمع فاسدا ان يتم اختطاف الدفة من اهل الصلاح و وقوعها في ايدي المجرمين
كما يجب ملاحظة ان الدفة قد يخطفها المجرمون و يستطيعون الاحتفاظ بها لانهم غالبا سيتلقون كل الدعم و التاييد من خصوم و اعداء و منافسي المجتمع
بينما النبلاء المصلحون لا يستطيعون اخذ الدفة و الاستمرار في السيطرة عليها الا بحقها لانهم سيسيرون بها ضد تيار المصالح و الشهوات فان لم يكونوا قادة مهرة فانهم سيغرقون و يغرقون معهم مجتمعهم (و هذا يفسر رغبة بعض المجتمعات في وجود الاسلاميين كمعارضة مع ابداء تخوفهم من ان يكون الاسلاميين هم من يملكون زمام الحياه )

كما ان المرجعية الفكرية للمجتمع لها دور كبير في تحديد الافعال المكرمة و الافعال المجرمة
فلو ان مرجعية المجتمع تجعل العلاقة بين الذكر و الانثى خارج اطار الزواج فعلا مجرما و مشينا يستوجب العقوبة في الدنيا و الاخرة فهذا مجتمع مرجعيته سليمة و اسلامية
و معظم المجتمعات العربية حتى الان مرجعيتها اسلامية في الغالب لكن المشكلة في اختلاف المرجعية عن التطبيق و هذا الاختلاف بين المرجعية و التطبيق كفيل بانزال اي مجتمع الى الدرك الاسفل من الحياه الانسانية

في الغرب يؤمنون ان العلاقات خارج اطار الزواج تقع تحت دائرة الحرية الشخصية
و بالتالي قل اضطراب المجتمع و قلت الازدواجية بين القناعات و السلوكيات و قلت الافعال التي تدرج في الاحصائيات على انها جرائم
و زادت دافعية المجتمعات الغربية نحو الانجاز و التقدم
لهذا انا لدي قناعة شخصية ان الكافر وضعه في الدنيا افضل من الفاسق و ان اختلفت الموازين في الاخرة
لان الكافر المتخذ مرجعية كافرة على هواه سيظل يحقق نجاحات في الدنيا (الى حين) نتيجة تصالحه مع ذاته
فهو لا يفعل في الليل ما يجعل ضميره يعطله عن الانتاج في النهار

بينما الفاسق تكبله ازدواجيته و تقطعه الفجوة بين قناعاته بمعالي الامور و بين تصرفاته الدنيئة التي ترهقه


كيف يتم اصلاح المجتمعات من خلال رؤيتي الشخصية لهذه النظرية

1-يجب ترميز القلة النبيلة و حشد الاضواء على سلوكياتهم
مثلما كان يفعل عمر بن الخطاب عندما كان يحشد اهل بدر و الصحابة الاوائل لسماع مشورتهم و كان يزيد لهم في العطايا ليرى الناس سعة انفاقهم في سبيل الله

في حالة اتخاذ نبلاء المجتمع نجوما و قدوات فان هذا يعطي انطباع عام بان الاخلاق الفاضلة تسود هذا المجتمع حتى و لو كان هذا المجتمع فيه عتاة المجرمين

و ليكون هؤلاء النبلاء رموزا يجب تاهيلهم ليكونوا قادة و صناع حياه
و بالطبع لا يوجد امكاني للاتيان بطائفة من الناس و منحهم رتبة النبل و انما هم في الغالب اهل السبق في عمل الخير و هم دائما من بادروا بالخيرات في وقت كانوا فيه ضد التيار العام للمجتمع
و هم غالبا يملكون مهارات قيادية و ثقة عالية بالنفس هي التي تؤهلهم لفعل الخير حتى و لو خالفوا تيار المجتمع و ضغوطه
و عليهم دائما تنمية مهاراتهم القيادية و زيادة رصيدهم العلمي و تجاربهم و خبراتهم الحياتية ليستحقوا الامامة و الريادة و القيادة
و معركة الاصلاح بالنسبة لامثال هؤلاء تعد ضرورة حياة او موت و ليست مجرد عمل تطوعي جانبي لانهم لا يستطيعون العيش الا في مجتمع سوي حتى لا يتعرضون للسحق بسبب تيار الفساد العام فهم بمثابة كرات الدم البيضاء في الجسد المريض (و ان الام هؤلاء النبلاء في حالة توقفهم عن مدافعة امراض الامة تفوق الاممهم الناتجة عن الاستسلام)
و على الحركات الاصلاحية دائما ان تبحث عن هؤلاء و تتخذهم بطانتها و اساسها مع عدم الغلو في الاحلام و تصور ان مهمة المصلحين ان يتحول اغلب افراد المجتمع الى امثال هؤلاء النبلاء لان هذا مستحيل و لم يحدث في التاريخ البشري ابدا

2 -توفير حد الكفاية الاقتصادية و تامين حاجات المجتمع الاساسية و نشر الوعي الديني و الاخلاقي و الاهتمام بالتعليم و الثقافة يحمي الرجل العادي من الانحراف بشقيه (الجريمة الناشئة عن الضرورة و الجريمة الناشئة عن الجهل)

3-المجرم بالصدفة يتم تقويمه من خلال حشد التوعية الدينية و الاخلاقية مع التوعية و التمكين من اسباب النجاح في الحياه و تكافؤ الفرص و اشعاره بالرقابة المستمرة (المال السايب يعلم السرقة و عدم وضع البزين بجوار النار) و تنمية مهاراته ليصل لاهدافه بالسبل المشروعة


4-المجرم بالطبع لا يصلحه الا الردع
فعند قطع يد السارق في ميدان عام فان المجرم بطبيعته سيلتصق بذهنه صورة مروعة تعمل كارتباط شرطي مزعج حال تفكيره في الجريمة مما يبعده تماما عن التفكير الاجرامي طالما هيبة القانون في صدره و عقله و وجدانه و لا يمكن ان يندفع الى الجريمة في هذه الحالة الا اذا تناول جرعات كبيرة من المسكرات التي تنسيه هيبة القانون و ردع العقوبة بشكل مؤقت
كما يجب استنفاذ طاقة هذه النوعية في العمل العضلي الشاق ان كانت ميوله الاجرامية من النوع البدني

و اشغال اصحاب التكوين الاجرامي العقلي (النصابين و الكراكر )في المسابقات و تكليفهم بالاعمال الذهنية المفيدة للمجتمع و المستنفذة لطاقاتهم العقلية الزائدة

ملحوظة مهمة : انت لا تستطيع اجراء مسح او اختبار او مسابقة لتكتشف و تحدد افراد كل فئة لتتعرف على النبلاء و المجرمين بالصدفة و الرجل العادي و المجرم بالطبع
و اي محاولة لوضع الناس تحت احد هذه التصنيفات تعد محاولة فاشلة و مجرمة في ذاتها
فقد سبق ان تبنت مدرسة قانونية المانية (المدرسة الغائية) فكرة معاقبة الناس بناءا على اصنافهم و ليس على سلوكياتهم
مثال : يتم عمدا و بشكل مقصود وضع مبلغ مالي مغري بالسرقة امام الناس و يتم امساك و تطبيق العقوبة على من يقوم بجريمة السرقة
طبعا هذا الاسلوب فيه دفع الناس للسرقة و معاقبتهم على نواياهم و استدراجهم للخطأ و قد سقطت هذه المدرسة القانونية في عقر دارها

و سبق ان قضت محكمة النقض المصرية بعدم صحة اجراءات ضبط صفقة مخدرات بسبب ان ضابط انتحل شخصية تاجر مخدرات و تصيد شخص انهى عقوبة السجن لتوه و اثبتت الوقائع ان الضابط ظل يغري هذا السجين السابق بالعودة للاتجار و ظل يمنيه و يزين له الطريق و يغريه بالربح و المال حتى انخرط في الجريمة ثم تم الامساك به متلبسا مرة اخرى

ملحوظة اخرى مهمة :
كل ما ورد من معلومات في هذا الموضوع هو من الذاكرة في مناهج دراسية مر على دراستها اكثر من 15 سنة لذا برجاء الرجوع للمصادر الاصلية حالة الرغبة في توثيق احد المعلومات

تعليقات

التسميات

عرض المزيد