هل حقا اسس النبي دولة ؟ و هل كان تأسيس الدولة هو مشروعه و هدفه ام مجردوسيلة لنشر الرسالة و بيئة حاضنة للمؤمنين ؟

وجهة نظر تاريخية لقارئ غير متخصص
تواترت اجتهادات و مزاعم الباحثين عن السلطة عبر تاريخ المسلمين منذ وفاة النبي على اعتبار ان النبي اسس دولة و انه كان حاكمها الاول ثم خلفه في حكمها الخلفاء الراشدون و غير الراشدين
و على هذا الاساس فرق هؤلاء دينهم و صاروا شيعا و احزابا سياسية تستمد حقها الشرعي في السلطة من الدين و جعلوا لخلافاتهم السياسية مرجعيات دينية تجعل من خلافاتهم خلافات مقدسة من يموت فيها من اتباعهم فهو شهيد و من يموت فيها من خصومهم فهو مرتد او خارجي او شاقق لعصى الجماعة او مثير فتنةو جاء دورنا لنناقش المسلمة التي بنوا عليها حروبهم غير المقدسة على السلطة الدنيوية

هل اسس النبي دولة ؟ و بافتراض أنه اسس دولة هل كان مشروع تأسيس الدولة هو مشروعه الرئيسي ام كان مجرد خطوات تنفيذية اجتهادية مرتبطة بظروف الزمان و المكان لنشر الدعوة و توفير بيئة آمنة للمسلمين ليطبقوا شعائر دينهم دون خوف من الابادة و الفتنة في الدين؟



ما يحملني على تلك التساؤلات عدة نقاط و تأملات تاريخية لافعال النبي السياسية و خلفائه الراشدين اوجزها في التالي

* ان وثيقة المدينة التي يعتبرونها اول دستور في التاريخ لم تنص او تلمح الى ان القبائل العربية او اليهودية تابعة لحكم النبي او خلفائه و لكنها كانت تعتبر كل قبيلة امة مستقلة لها حكمها الذاتي و تقاضيها وفق اعرافها في شئون افرادها و بيوتها و ان المهاجرين امة من ضمن امم المدينة
و من هذا المنطلق صار النبي مسئولا عن ديات و افعال اصحابه من المهاجرين فقط كما انه صار مسئولا عن حقوقهم
وثيقة المدينة كانت اتفاقية قبائل على تنظيم العيش المشترك في مدينة واحدة ليس لها قائد او سيد او حاكم واحد
و لهذا كانت اهمية و مكانة سعد بن معاذ و سعد ابن عبادة و ابن سلول ليس لانهم من كبار المؤمنين و ليس لانهم من ذوي الشهرة بسداد الرأي و لكن لانهم زعماء الاوس و الخزرج

و وفق هذا التصور نفهم انسحاب ابن سلول بثلث جيش المدينة يوم احد دون ان يعاتبه الرسول او يعاقبه لان الرجل كان حليف و ليس قائد تابع لحاكم دولة

* كما ان شكل المدينة متعددة القبائل و السيادة كان موجود في مكة و الطائف و يثرب قبل الهجرة و بعدها
فلو اعتبرنا ان هذه الحالة السياسية من التعايش في مدينة تعد دولة
فلنعتبر ان مكة كانت دولة و اليمامة دولة و الطائف دولة
و لنقر ان حلف الفضول كان وثيقة دستورية اسبق من وثيقة المدينة و ان دار الندوة كانت برلمان دولة مكة و لو استكملنا البناء القانوني على هذا الاساس لصنفنا النبي و صحابته على انهم متمردين او ثوار او خارجين على حكم دولة مكة
و الحقيقة لم تكن كذلك

*المصطلح المتداول في مناقشات خلافة النبي لم يكن مصطلح “الحكم” و لكن مصطلح “الامر” من له الامر من بعده ؟

النبي كانت طاعته واجبة على المؤمنين به بنص القران
حين حدد الطاعة بانها لله و للرسول
و لاولي الامر منكم
و الطاعة لله مطلقة الزمان و المكان
و الطاعة للرسول تمثلت في سلوك المؤمنين في زمن الرسالة
و طاعة اولي الامر “منكم” ممتدة في الزمان و المكان و متنوعة و متغيرة الاشخاص و المؤسسات التي تلي الامر و حدود ولاية الامر و نطاقاتها

*ليس هناك نص قطعي و لا حتى راجح الظن على وجوب خلافة النبي في ولاية امر الناس

*عندما ارسل الرسول رسائله الدعوية للحكام “الحبشة و فارس و الروم و مصر و اليمن و عمان و غيرهم ” لم يطلب من هؤلاء الحكام الا الايمان بالله الواحد و الاعتراف بنبوة محمد و لم يطلب منهم الدخول في حكمه و اعتبار انفسهم ولاة في دولته
فقد اسلم ملك اليمن و عمان و البحرين و اسلم النجاشي و لم تدخل بلدانهم في حكم النبي و لم يكن هؤلاء الملوك ولاة عند النبي و لم يتدخل في نظم حكمهم و لا نظم توريث عروشهم و لا حتى في صراعاتهم الداخلية على السلطة في بلدانهم
فقط كان يرسل لهم من يعلمهم الاسلام و من يجمع الزكاه من الذين اسلموا و يوزعها فيهم و ربما لا يرسل منها للمدينة الا الفوائض التي يعاد ارسالها الى فقراء القبائل الاخرى

*كان النبي يرسل القراء و فقهاء الصحابة للقبائل حديثة الاسلام بغرض التعليم و الفتوى و القضاء و التحكيم الطوعي بينهم عند اتفاق الطرفين على الاحتكام لهم و لم يكن يرسل الى القبائل ولاة ينوبون عنه او يتدخل في نظم و اعراف القبائل في شئون دنياهم و طريقة تداول السيادة فيهم
فقد ظل الرجل الذي لقبه النبي بـ”الاحمق المطاع” سيدا على قومه حتى بعد اسلامه و اسلام قبيلته و لم يتدخل النبي و لو بالمشورة في عزله او استبداله

*و قد كان النبي نفسه اقرب لان يكون محكما  من ان يكون قاضيا “يلجأ له اطراف النزاع و يحكمونه فيما شجر بينهم”
كما ان الحدود و احكام المواريث التي وردت في القران اتت جميعها مخاطبة للمؤمنين و ليست لشخص الرسول باعتباره الحاكم المنفذ

*بعد وفاة النبي سارع الانصار الى السقيفة للتشاور في شأن السيادة على المدينة و فقط و لم يكن في ذهنهم امر خلافة و وجوب لم شمل كل المسلمين في دولة موحدة لذلك لم يدعوا الانصار احدا من المهاجرين او احدا ممثلا عن قريش او الطائف او ينتظرون مشورة حكام اليمن و عمان و غيرهم من قادة القبائل الكبرى
و كان الطبيعي ان يكون سعد بن عبادة سيد الانصار هو سيد المدينة بعد وفاة النبي
ثم كانت مسارعة عمر و الصديق الذين وسعوا النظرة من دائرة السيادة على المدينة الى السيادة على العرب فكان الطبيعي ان تكون السيادة على العرب لقرشي و ان يكون القرشي اقرب الناس للنبي صحبة او نسبا و لان الصديق كان صاحب المبادرة بالحضور و لانه الاسن و لان الامر جاء فلتة “كما عبر عمر بن الخطاب” فكانت خلافة النبي على ولاية امر المؤمنين للصديق رضي الله عنه “ولاية امر المؤمنين و ليس الدولة”
و كان هذا اجتهاد دنيوي بحت وليد المجلس المنعقد في السقيفة

*لان النبوة اثبتت مكانة تفوق الملك ادعى كل راغب في سيادة قومه النبوة حتى صارت صرعة “موضة” و كانت كل قبيلة تريد اخضاع جيرانها لسيدها باعتباره نبي
و كانت المدينة عاصمة دعوة النبي الاول للعرب هدف جميع المتنبئين الجدد
كان لابد من اسقاط المدينة اولا ثم تبدأ حروب الانبياء الجدد مع بعضهم البعض على النبي الاولى بالاتباع منهم

فخاض ابو بكر حروب الردة و قاتل مانعي الزكاه باعتبارهم استغلوا ظرف الزمان لفرط “الامر” الذي لم يكن له مسمى و شكل الدولة حينئذ

*الروم و الفرس رغم صراعهما الضاري الا انهما كانا يهددان المدينة و ينوون مهاجمتها
لذلك توفي رسول الله و جيش اسامة بن زيد يتهيأ للخروج الى الروم

لم يكن في الامكان عقد اتفاق بين المدينة و بين كل الخصوم المتخاصمين على تركها ان تحيا في امان و سلام كمعقل للرسالة و التبليغ و اقامة الاسلام
فكانت الحرب في كل الجبهات فرض اللحظة

*توفي ابو بكر الصديق و للمسلمين جبهتين مفتوحتين
و في بداية عهد عمر حدث انتصارين عظيمين
القادسية و اليرموك
لم يكن ممكنا التوقف عند حدود النصر و ترك الخصمين يستعيدون الجولة ثم الغزو مرة اخرى
فكانت حملات مطاردة جيوش الدولتين العظمايتان و قواعدهما البرية و البحرية و مراكز جمع المال و العتاد و الرجال
فكانت الفتوحات الاسلامية فرض اللحظة التاريخية و رد فعل دنيوي بحت غير محسوب استراتيجيا
و كان عمر في اشد التخوف من التوسع في حكم شعوب ذات حضارة و كثافة بشرية مما قد يمثل بؤر حضارية تمتص القلة البدوية البدائية التي تحمل الرسالة
و كافح عمر لسد الخلل

*كافح عمر بن الخطاب لسد الخلل الحضاري من جهة
و كافح ايضا للبحث عن كوادر للحكم و الولاية
و كافح لتأسيس الدولة
و كافح لتحجيم رغبات قادة الجيوش في التوسع

*نجح عمر بن الخطاب بالكاد في تحقيق مسعاه
لكن عثمان رضي الله عنه ما استطاع ان يحذو حذوه في مكافحة التوسع و سد الخلل الحضاري و مغالبة رغبة رجاله في تكديس الرفاهية
فاتسعت الدولة الوليدة اقصى اتساع عرفته اي امبراطورية في التاريخ لتمتد من موسكو و تخوم الصين و الهند الى موريتانيا في ظل نظام اتصالات بدائي و نظام حكم شديد البدائية قائم على اهل الحل و العقد من المتبقين من رجال بدر و كبار الصحابة “و اختفى دور الانصار للابد منذ خلافة ابي بكر”

فنحن امام دولة عمرها الحضاري بضع سنوات و نظمها و فنون الحكم فيها بدائية صحراوية تحكم شعوب ذات ديانات و فلسفات و حضارات غاية في التنوع و الثراء و الغرابة و القدم

*يكفي للتدليل على بدائية تلك الدولة الوليدة
ان نرى الثوار يحاصرون بيت الحاكم اكثر من شهر و لا يعرفون طريقة خلعه و يستحيون من قتله
و الحاكم نفسه لا يجد مسوغ شرعي او فقهي يستحل به قتالهم

و ربما لو صبر الثوار على عثمان كما صبر عليهم لاستحدث المسلمون في تلك الدولة الوليدة التي كانت “امبراطورية بعقل قرية” ربما لو صبروا لولد الجدل نظاما مطورا يغنيهم عن نهر الدم المراق في سبيل السلطة الذي ابتدأ بعثمان و لم ينتهي بعد حتى يومنا هذا

الخلاصة ان التطبيق السياسي سبق التنظير في تاريخ المسلمين و الصحابة الاوائل
و تلك كانت الازمة التي بدأت منذ لحظة وفاة النبي و سقيفة بني ساعدة و لم تنتهي حتى اليوم لدى فكر و تطبيق المسلمين السياسي
و حتى الان التطبيق سابق التنظير


تعليقات

التسميات

عرض المزيد